فصل: ترتيب الآيات والسور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.تحريق غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه:

19 - كانت الفتنة قد بلغت ذروتها وخبَّ فيها الذين يؤيدونها ووضعوا، وكان قد دخل في الإسلام الذين يريدون أن ينتقموا منه لدولهم التي غزاها نور الإسلام، وانفتح في قلوب الأكثرين باب الهداية، ووجدوا في القرآن السبيل إلى ما أرادوا أن يهدموه وهو الإسلام، ليقتلعوه من جذوره، ويأتوه من قواعده، فجاءوا من القرآن عماده ونور الله المبين وحبله المتين.
وكان السبيل إحياء الأحرف التي نُسِخَت، فاندسُّوا بين المسلمين يحيون المقبور، ويروجون المهجور، ويبثون روح الشك والريب فيما هو متواتر ثابت.
وقد انبرى لهم ذو النورين، واجتثَّ شرهم، فجمع المصحف الإمام على الطريق المأمون الذي كان مستوثقًا غير متظنّن، ومتأكدًا غير متشكك، فكان ما كتب في عهده هو عين ما كتب في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وما كتب في عهد الشيخين هو عين ما أملي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وما حفظه أصحابه في صدورهم.
حتى إذا تمَّ له ما احتسبه عند الله على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاهدوا وعاينوا واتبعوا عن بينة، وفيهم الكثيرون ممن حفظوا القرآن كله كعليّ - كرَّم الله وجهه، ومعاذ بن جبل، فكان التواتر الكامل والصيانة الكاملة والاستحفاظ على كتب الله تعالى.
فلم يبق إلَّا أن يزيلوا غيره من المصاحف؛ لأنها كتبت بغير حرف قريش أو به وبحروف أخرى، فأحرقها جميعًا، ولم يبق إلَّا المصحف الإمام وما نُسِخَ منه، فلا يرجع إلى سواه، ولا يعتمد على غيره، ولو بقيت مصاحف غيره لكان الاحتجاج بها، ولعادت الفتنة جذعًا، وكان التشكيك والريب، وقد حفظ الله تعالى كتابه.
حرق عثمان المكتوب كله، ولم يبق منه شيئًا، وردَّ إلى السيدة أم المؤمنين حفصة المصحف الذي كان مودعًا عندها، والذي كان إمامًا لمصحف عثمان، كما قرَّر بحق ابن جرير الطبري، وقد ردَّه إليها لموعدة وعدها إياها فوفَّى بوعده، ولكنّها لما توفيت أمر عبد الله بن عمر أن يحرق المصحف الذي كان عندها، وروي أنَّها توفيت رضي الله عنها - في عهد معاوية بن أبي سفيان، وأن الذي حرق المصحف الذي عندها والى المدينة مروان بن الحكم، ومهما يكن اختلاف الرواية في تاريخ وفاتها، فإنَّ عثمان رضي الله عنه قد قرَّر أن يحرق بعد وفاتها.
وهنا يسأل المؤرّخ: إذا حرق عثمان المصاحف الأخرى لما أثارته من فتنة، ولأنه كان فيها حروف أخرى غير حرف قريش، فلماذا قرر حرق المصحف الذي عند حفصة، وقد كان إمام مصحفه، والمرجع الذي وزن به صحة ما كتب في عهده، حتى إنه قيل: إن المصحف الذي كتب في عهده قد نسخ منه نسخًا؟
ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ المصحف أودع حفصة رضي الله عنها وعن أبيها؛ لأنَّها كانت حريصة على أن يبقى عندها، وما أراد الرجل الطيب عثمان أن يحرمها مما أرادت، فأعاده إليها، ولكنَّه الحريص على القرآن خشي أن يقع في يد أحد، فيمحو فيه ويثبث، ويقول: قد غيَّر ما عندكم، وها هو ذا الأصل، فاحتكموا إليه، ويكون صالحًا للاحتكام، فأمر أن يحرق بعد وفاتها، وما أبقاه عندها في حياتها إلا مرضاة لها، فاحتاط للقرآن، وما أعنتها رضي الله تعالى - عن ذي النورين بما صنع - وأكرمه في مثواه ورضي عنه وأرضاه.

.ترتيب الآيات والسور:

20 - أجمع العلماء على أنَّ الآيات رتبت بتنزيل من الله تعالى، فكانت الآية إذا نزلت يقول صلى الله عليه وسلم لكتابته ولصحابته: ضعوها في موضع كذا من سورة كذا، وتكون لقفًا مع التي وضعت بجوارها، وتكونان نسقًا بيانيًّا، هو الإعجاز، وإنه يدل على وحدة المنزِّل وهو الله سبحانه وتعالى، وإن الآيات المكية كانت توضع في السور المكية، والمدنية كانت كذلك توضع في المدنية، إلا بعض آيات مدنية وضعت في سور مكية ونبَّه إليها.
على ذلك انعقد الإجماع، وكانت العرضة الأخيرة التي قرأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل بترتيب الآيات ذلك الترتيب، ومن أنكر ذلك أو حاول تغييره فقد أنكر ما عُرِفَ من الدين بالضرورة، وخرج عن إطار الإسلام، وحاول التغيير والتبديل، فتلك الدعوات المنحرفة التي تدعو إلى ترتيب القرآن على حسب النزول، أو على حسب الموضوعات، هي خروج على الإسلام، يبثه بعض الذين لا يرجون للإسلام وقارًا؛ إذ يجعلون القرآن عضين، ويخالفون التنزيل، ويعارضون الوحي، وذلك خروج عن الإسلام.
هذا ترتيب الآيات، أمَّا ترتيب السور فإنَّه من الثابت أنَّ المصحف الإمام كان على هذاالترتيب، وقالوا: إنه ما ارتضاه زيد بن ثابت، ووافقه عليه الشيخان أبو بكر وعمر وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وذو النورين عثمان وهو المتَّبِع، فلا يغير ولا يبدِّل، وقد قيل: إنَّ بعض الصحابة كان له مصحف بغير هذا الترتيب، فكان لأُبَيّ مصحف، وكان لعلي - كرَّم الله وجهه - مصحف، وقد نقل ابن النديم في الفهرس أنَّه كان على حسب ترتيب النزول، وأنه ابتدأ بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1، 2]، وهي أوَّل آية نزلت.
ولكن في العرضة الأخيرة من جبريل كان على هذا الترتيب، البقرة ثم آل عمران على ما والاها.
ولقد جاء في (الجامع الكبير) للقرطبي ما نصه: ذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول: سمعت ربيعة يسأل: لم قدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ينتهي إليه.
قال ابن مسعود: (من منكم كان متأسيًا، فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
ولقد قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: (إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذكر أبو بكر الأنباري كما نقل عنه القرطبي: أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرِّق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل والآية جوابًا لمستجيب يسأل، ويقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فمن أخَّرَ سورة مقدَّمة أو قدَّم أخرى فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغيَّرَ الحروف والكلمات، ولا اعتراض على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: «ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن، وكان جبريل عليه السلام يقفه على مكان الآيات».
ومن هذه الروايات المختلفة المؤتلفة المجمعة على أنَّ ترتيب السور بتوقيف، يتبين أنَّ المصحف الإمام هو الذي يصوّر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل ما بين يديه ولا من خلفه.
ولكن ماذا يقال عن الروايات التي جاءت بأنه كان لأُبَيّ مصحف بغير هذا الترتيب، ولعلي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه - مصحف كان بترتيب النزول؟ لنا في الإجابة عن ذلك السؤال طريقان:
أولهما: أن نعتبر ما عليه الكثيرة التي تكاد تكون إجماعًا يؤخذ به، ويكون ذلك الإجماع دليلًا على ضعف ما عداه، وأنه لا يؤخذ به لعدم صحة السند.
ثانيهما: إنِّنَا نقول: إن ذلك كان قبل العرضة الأخيرة، وفي العرضة الأخيرة وضعت السور في مواضعها، وهذا ما اختاره القرطبي وغيره، فقد قال: أمَّا ما روي من اختلاف مصحف أُبَيّ وعلي وعبد الله بن مسعود، فإنما كان قبل العرض الأخير، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رتَّب لهم ترتيب السور بعد، إن لم يكن فعل ذلك من قبل.
وننتهي من هذا إلى أنَّ ترتيب السور كترتيب الآيات كان بوحي من الله العليّ الحكيم.

.قراءات القرآن:

21 - يقرأ القرآن الكريم بقراءات مختلفة: مختلفة في حركات أواخر الكلمات، أو في بناء الكلمة، أو في الوقوف في أواخر الكلمات، أو في الهمزات قطعًا ووصلًا، كهمزة الأرض، فهي تقرأ موصولة ومقطوعة، وهكذا، وإنَّه يجب التنبيه في هذا إلى أمرين:
أولهما: إنَّ قراءات القرآن متواترة ليست هي الأحرف السبعة كما ذكرنا، بل إن الرأي القويم الذي انتهى إليه الباحثون كابن جرير الطبري وغيره إلى أنَّ القراءات كلها تنتهي إلى حرف واحد، وهو الذي كُتِبَ به المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة، وهو الذي جمعه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وألزم به الأقاليم الإسلامية، وهو مطابق تمام المطابقة للمصحف الذي كُتِبَ في عهد أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وهو الذي حفظ في بيت أم المؤمنين حفظة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها الفاروق.
الأمر الثاني: إنَّ هذه القراءات تنتهي في نهايتها إلى أنَّها من ترتيل القرآن الذي رتله الله سبحانه وتعالى، وتفضَّل بنسبته إلى ذاته الكريمة العلية، فقال تبارك وتعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] فهي الأصوات التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان فيها موسيقى - إن صحَّ لنا أن نقول عنها هذا التعبير - فهي الأصوات القرآنية التي اتبعناها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهي في مدّها وغنّها، وإهمازها، وإهمال همزاتها، وإمالها وإقامتها، أصوات القرآن المأثورة؛ إذ إنَّ القراءة سُنَّة متبعة، وإن اختلاف القراءات الصحيحة وكلها متواترة عن الصحابة الذين أقرأهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم طرق الأداء التي تعلمها عن ربه، كما يشير إلى ذلك ما تلونا من قبل، وهو قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19].
فكانت القراءة التي وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم هي الترتيل، وهي تلك القراءات المأثورة عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تلقَّوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأيت أنَّه تلقَّاها عن ربه.
وهذه القراءات نجد الاختلاف فيها مع أنَّه تنتهي جميعها إلى المورد العذب، والمنهل السائغ، وهو تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقَّاها عن ربه، ليس اختلاف تضاد في المعاني، أو اختلاف تباين في الألفاظ، بل يكون الاختلاف:
أولًا: في شكل آخر الكلمات أو بنيتها، مما يجعلها جميعًا في دائرة العربية الفصحى، بل أفصح هذه اللغة المتسقة في ألفاظها، وتآخي عباراتها ورنَّة موسيقاها، والتواؤم بين ألفاظها ومعانيها.
وثانيًا: في المد في الحروف من حيث الطول والقِصَر، وكون المد لازمًا أو غير لازم، وكل ذلك مع التآخي في النطق في القراءة الواحدة، فكل قراءة متناسقة في ألفاظها من حيث البنية للكلمة، ومن حيث طول المد أو قصره.
وثالثًا: من حيث الإمالة، والإقامة في الحروف، كالوقوف بالإمالة في التاء المربوطة وعدم الإمالة فيها.
ورابعًا: من حيث النقط، ومن حيث شكل البنية في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، فقد وردت فيها قراءتان متواترتان: فتبينوا، وقراءة أخرى (فتثبتوا) وهما متلاقيتان، فالأولى طالبت بالتبين المطلق، والأخرى بينت طريق التبيين، وهو التثبت بتحري الإثبات، فإن لم تكن طرق الإثبات، ولا دليل على القول، فإنه يرد الكلام، ولا يتمسَّك بما قيل متظننًا فيها من غير دليل، وكلتا القراءتين مروية بسند متواتر لا مجال للريب فيه، فكانت إحدى القراءاتين مفسرة للأخرى.
وخامسًا: زيادة بعض الحروف في قراءة، ونقصها في أخرى، مثل: زيادة الواو في قراءة، وزيادة مِنْ في أخرى، وهذه نادرة لم أرها إلَّا في حالتين اثنتين فقط، فقد ذكر ابن الجزري إمام القراء المتأخرين المتوفَّى في سنة 823هـ، أنّ ابن عامر وهو من القرَّاء السبعة يقرأ {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس: 68] وقرأ غيره: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وإن حذف الواو ثابت في المصحف الشامي، وكان ابن كثير يقرأ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} وقراءة غيرها {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَار}، ومفهوم كلام ابن الجزري أنَّ القراءتين متواترتان، وأن هذا يؤدي إلى أمر جوهري، وهو أن المصاحف في هذا الموضع ليست نسخًا متحدة اتحادًا كاملًا، منسوخة كلها من المصحف الإمام، وهو المصحف الذي احتفظ به الإمام عثمان في دار الخلافة، وقد اتفقت الروايات على أنه لم يكن كالمصحف الشامي الذي كان على قراءة ابن عامر؛ لأنَّ مصحف الشام خالف كل المصاحف في نقص الواو - ومنها: المصحف الإمام مصحف عثمان، وبذلك يكون الرجوع لمصحف عثمان وما نقل عنه من المصاحف، وهو المصحف المجموع في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وحفظ عند حفصة، وهو أيضًا المتطابق مع المكتوب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الأمر في زيادة (من) في قراءة ابن كثير، المتفق مع المصحف المكيّ وغيره من المصاحف، ومنه المصحف الإمام، على عدم زيادة من في الآية التي زيدت فيها في المصحف المكيّ.
وإن النتيجة لهذا أن نقول: إنَّ الأصل وهو المصحف الإمام مصحف المدينة يقبل ما يتفق معه، وينعقد الإجماع عليه، وما لا يتفق معه ينظر فيه، وربما كان رده أظهر لولا ما يقال من أنَّ القراءة بالزيادة ليست آحادًا، ولا شاذة، بل متواترة.
ومن أجل ذلك حاول القرطبي التوفيق بين الزيادة وحذفها، فقال: وما وجد بين هؤلاء القرَّاء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم، فذلك لأنَّ كلًّا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه؛ إذ كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ، ولم يكتبها في بعض، إشعارًا بأنَّ كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائزة.
رواة القراءات:
22 - كانت القراءات معروفة في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وقد تلقَّوها جميعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن مصحف الإمام عثمان والإمامين من قبله، وما كتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان غير منقوط ولا مشكول؛ لكي يحتمل القراءات كلها، وليكلا يعتمد القارئ على المكتوب، بل يتلقى المقروء بالتلقي؛ ليصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعضهم: إنَّ الخط في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان غير منقوط ولا مشكول؛ لأنَّ العربية لغة بيان وإفصاح وتعبير، وانسجام بين ألفاظها، وتآخٍ بين أساليبها، فلا تعتمد على المكتوب بل على المقروء ونغماته، وتآخي عباراته من غير تجافي اللفظ عن المعنى، ولا المعنى عن اللفظ.
ولمَّا أخذت العجمة تغزو اللسان العربي ابتدءوا بنقط القرآن وشكله في عهد عبد الملك بن مروان من غير بعد عن القراءات، ومن غير اعتماد على المكتوب، بل يكون مع المكتوب ضرورة الإقراء من حافظ، وبذلك أمكن اجتماع الشكل والنقط مع الرواية وتواتر القراءة، وتعرُّف أوجه القراءات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في الصحابة من يقرئ الناس، ويعلمهم وجوه القراءات.
وقد اشتهر بإقراء الناس القرآن، وتعريفهم أوجه قراءته طائفة من الصحابة قد احتجزوا عن الخروج إلى ميادين الفتح؛ ليعلموا الناس ويفقهوهم في دينهم، ويقرئوهم القرآن الكريم.
ومن هؤلاء عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب فارس الإسلام، احتجز عن الجهاد بالسيف؛ ليكون له جهاد العلم والقرآن, وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء.
وعن هؤلاء أخذ كثيرون من الصحابة والتابعين، وأقرءاهم القرآن بوجوه القراءات، وكلها يتفق مع المكتوب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما أخذ المقرئون للقرآن من الصحابة ينقرضون حمل التابعون ذلك العبء الكريم، فقاموا بحقه، ويظهر أنَّ المقرئ كان يقرئ طالب القرآن القراءات كلها، ويختار منها ما يطوع له لسانه من غير إعوجاج، فكان الصحابة وكبار التابعين يقرءون بالأوجه كلها، ولكن يختار المستحفظ ما يقوى عليه لسانه.
وفي آخر عصر التابعين خلَّف من بعد قراء الصحابة والتابعين خلف طيب، وجد التخصص في قراءة من القراءات أولى من حفظ جميعها، فإنه إذا كان ذلك في طاقة الصحابة ومن داناهم من كبار التابعين، فمن وراءهم دون ذلك؛ إذ أخذت الطبيعة العربية تضعف عن حمل العبء كاملًا، فعني من أفاضل القراء من صغار التابعين، وتابعي التابعين برواية كلِّ واحد منهم قراءة واحدة؛ ليسهل عليه نطقها، ورووها متواترة، فكانت الرِّحَال تشَدُّ إليهم يتلقَّون عنهم، ويأخذون بما يقرئه كل واحد.
واشتُهِر من هؤلاء الذين خلفوا عهد الحفاظ من الصحابة الذين كانوا يقرئون الناس من صحابة وتابعين - اشتهر سبعة كانوا من بعد أئمة القراء.
وهم: عبد الله بن عامر المتوفَّى سنة 118هـ، وعبد الله بن كثير المتوفَّى سنة 120هـ، وعاصم بن مهدلة الأسدي المتوفَّى سنة 128هـ، وأبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة المتوفَّى سنة 154هـ، وحمزة بن حبيب الزياد العجلي المتوفَّى سنة 156هـ، ونافع بن نعيم المتوفَّى سنة 169هـ، وعلي بن حمزة الكسائي إمام الكوفيين المتوفَّى سنة 159هـ، وقراءات هؤلاء السبعة هي المتفق عليها التي نالت الإجماع، ولكل واحدة منها سندها المتصل المتواتر، وطريقه، وهو محفوظ في علم القراءات، وأجمع المسلمون على التواتر فيها.
وقد ألحق علماء القراءات وأهل الخبرة فيها ثلاثة غيرهم صحت قراءتهم، وثبت توارتها، وهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع المتوفَّى سنة 132هـ، ويعقوب بن إسحاق الحضري المتوفَّى سنة 185هـ، وخلف بن هشام.
وقراءات هؤلاء بإضافتها إلى القراءات السبع تكون عشرة كاملة.